Saturday, February 19, 2005

بدايات الشعر التركماني في أرض الرافدين

انطولوجيا الشعر التركماني العراقي
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=24842
نصرت مردان

ان جهود بعض المثقفين مؤخراً في التعريف بالثقافة التركمانية العراقية، باعتبارها جزءا هاماً من موزائيك الثقافات الأثنية في العراق، تبقى بحاجة إلى التواصل، خاصة؛ وأنها تهدف في نهاية الأمر إلى تعزيز الانتماء للهوية العراقية الوطنية، وإلى اعتبار منجزات هذه الثقافة رافداً من روافد الثقافة العراقية المعاصرة.
قدمت الحضارة العراقية على مر العصور، الكثير من المبدعين والنوابغ في مختلف المجالات الفكرية والثقافية. ويكمن سر هذه الديمومة الإبداعية في التنوع الثقافي العجيب الذي ظلت تستقبله أرض الرافدين، وتذيبه في مياه نهريها الخالدين. ومن هذه الينابيع التي لا تزال تنساب، وتسقي حتى الثقافات التي خارج العراق، هي الثقافة التركمانية التي للأسف لم تأخذ حظها من التعريف والتحليل الذي تستحقه من المثقفين العراقيين و العرب. علماً أن تركمان العراق يعتبرون من طليعة و مؤسسي الأدب الناطق بالتركية منذ منتصف القرن الرابع عشر.
منذ ذلك التاريخ يواصل تركمان العراق عطاءهم الثر في كافة المجالات الثقافية والأدبية،لتأسيس ثقافة إنسانية معاصرة وأصيلة قائمة على تراثهم الشعري والثقافي الموروث والمتواصل منذ قرون عديدة على هدى أسلافهم الذين خدموا الثقافة والأدب والفكر الإنساني.
إلا أن ما يدعو إلى الأسف حقاً هو عدم إيصال مساهماتهم في الفكر والثقافة على مر العصور إلى المثقف العراقي خاصة والمثقف العربي عامة بالشكل المطلوب، رغم كونهم جزءاً لا يتجزأ من تاريخ العراق وشعبه.
إن خصوصية الروح العراقية جعلت الأدب التركماني يتميز، ويبرز في جميع البلدان والمناطق الناطقة بالتركية في أواسط آسيا وتركية وأذربيجان والبلقان. حيث قدم تركمان العراق لهذه المناطق الناطقة بالتركية اثنين من أهم وأبرز شعرائهم هما: سيد عماد الدين نسيمي (1370 ـ 1417)، و فضولي البغدادي (1494 ـ 1556).
يعتبر الشاعر عمادالدين نسيمي (1370 ـ1417)المولود بمنطقة ـ نسيم ـ بضواحي بغداد، المؤسس الحقيقي للشعر التركماني ومن أكبر الشعراء في تاريخ أدب الشعوب الناطقة بالتركية إلى جانب كونه شخصية بارزة في الفكر الإسلامي وخاصة في الدول الناطقة بالتركية.كما تكشف قصائده التي كتبها باللهجة التركمانية (وهو أول شاعر يكتب قصائده بها في القرن الرابع عشر) إطلاعه الموسوعي على معارف عصره. ويعتبر نسيمي في الوقت ذاته داعية وشخصية قيادية في المذهب(الحروفي) وهو مذهب صوفي ينادي بوحدة الوجود تعظم وتقدس الحروف والأرقام وتركيب الحروف في الكلمات.وتعتبر (الحروفية) الكون مظهراً للوجود المطلق.حيث الدنيا راسخة في علم الكون، وهذا الرسوخ يُعتبر تجلياً للكائنات،وتتأسس أحكام الحروفية على الحروف الثمانية والعشرين في العربية مضافاً إليها أربعة حروف إضافية (اللام ألف) التي تُقرأ عند بسطها أي كتابتها كما تُقرأ أربعة حروف إضافية هي (لام،ألف،ميم،فاء)وبذلك يصل عدد الحروف إلى اثنين وثلاثين حرفاً.
على أثر انتشار الحروفية انتقل نسيمي من العراق إلى أذربيجان ومنطقة الأناضول لنشر المذهب الحروفي. وقد ترك الحروفيون في القرن الخامس عشر الميلادي اللغة الفارسية،وبدءوا باستعمال اللغة التركية،حيث كتب نسيمي في هذه الفترة ديواناً مع رسالة (مقدمة الحقائق) شرح فيه تفاصيل المعتقدات الحروفية.كما أثارت قصائده باللهجة التركمانية (وهي خليط من لهجة الأناضول واللهجة الأذربيجانية)أصداء واسعة في صفوف المتصوفة والأوساط الدينية.حيث دعا فيها نسيمي الإنسان إلى معرفة ذاته،على اعتبار إن أسرار الكون وأسرار الخليقة تتجلى فيه.
استعمل نسيمي أنماطاً شعرية سائدة في الشعر العربي والفارسي كالغزل والرباعية والمثنوي.وقد تمكن من أن يكون أول شاعر عراقي ينظم باللهجة التركمانية قصائد تضاهي ما هو مكتوب في الشعر العربي والفارسي الكلاسيكي مضيفاً إليها نفحات شعرية تعبر إن إيمانه بالمعتقدات الحروفية.

في وجهك أظهر الحق اليوم
الحروف جميعها برهاناً على أنه أنت
توحد العاشق والمعشوق
وزال الفرق بين اللاء والنعم

ظل نسيمي طوال حياته متأثرا لمصير المتصوف الكبير الحلاج مرددا ذكره باحترام وتقدير بالغين.غير مدرك أن القدر يخفي له مصيرا شبيهاً بمصير الحلاج.
أقول دوماً ((أنا الحق))لأني بالحق منصور
من ذا الذي يتناساني وشهرتي تعم الآفاق
قبلة الصادقين أنا، وعاشق المعشوقين
السماء السابعة أنا،وناصر المظلومين
أنا موسى إذ أناجي الحق دوماً
يتجلى قلبي أبداً في طور سيناء
أترع كأس الوحدة منذ الأزل
منذ الخليقة أنا نشوان ومخمور
أنى توجهت عيناي هناك أبصر المحبوب
تأخذني البهجة وأفرج الكرب بالكرب
شاهد الحبيب أنا والكون والأفلاك
النطق الرباني أنا في كل اللغات
كياني مرآة للكون والآفاق
أنا صورة الرب، المستور عن البشر
جوهر نسيمي أنا،كاشف الأسرار
مجنون أنا ومتوله،
أُنظر لي كم أنا ظاهر !
يستعمل نسيمي ضمير المتكلم (أنا) في قصائده ليس تعبيراً عن ذاته بل للدلالة على الإنسان بمعناه العام.
اضطر نسيمي إلى مغادرة باكو بعد مقتل فضل الله مؤسس الطريقة الحروفية على يد ميران شاه بن تيمورلنك في 1394 م متوجهاً إلى الأناضول حيث اتصل بالحاج بكتاش ولي (مؤسس الطريقة البكتاشية وهي إحدى الطرق العلوية بتركية) حيث وجد استقبالا حارا من مريديه.ويقال إنهم تأثروا بأفكاره الحروفية التي بدأ بنشرها في الأناضول. ويبدو تأثيره واضحاً من خلال هذه الأبيات للحاج بكتاش ولي :
ليس الزهد في الجبة والعمامة
النار ليست في الحرائق والجحيم
كل ما تريد كامن في ذاتك
لا في القدس ومكة والحج
ولايزال نسيمي إلى يومنا هذا يحظى بمكانة محترمة بين البكتاشيين والعلويين في تركيا حيث يترنمون بقصائده في طقوسهم الخاصة التي ترتل فيها القصائد وتغنى على آلة الساز.
أضطر نسيمي بعد تزايد نشاطاته بين البكتاشيين المعادين لسلطة الدولة العثمانية وخوفه من انتقام السلطان مراد الرابع إلى الانتقال إلى مدينة حلب، حيث أخذ يواصل فيها نشاطاته الحروفية.
لبست لباس الملامة من تلقاء ذاتي
ماهم الناس إن حطمت على صخرة، قارورة الحياء

أصعد السماء أحياناً وأرقب الكون
ماهم الناس،لو نزلت ورآني الآخرون

أذهب أحياناً إلى المدرسة لأقرأ من اجل الحق
ماهم الناس إن ذهبت إلى الحانة وشربت حتى الثمالة

قالوا عن شراب الحب إنه حرام
ماهم الناس إن ملأت الكأس وشربت

يصلي الزهاد في محراب المسجد
ماهم الناس لو كان محرابي عتبة الأحباب

قالوا لنسيمي هل أنت راض عن الحبيبة
ماهم الناس إن رضيت، أو لم أرض،هي حبيبتي أنا

تعرض نسيمي في حلب إلى مضايقات وتأمر من قبل أعدائه. حيث قام أحد المتآمرين بتمزيق صفحة من القران الكريم ووضعها في خرقته دون علمه. وعندما مثل بعد الوشاية به أمام القاضي الذي قال له (ما الحكم في اليد التي تعبث بالقران؟) فكان جوابه تقطع. وهنا قال له القاضي : (هاقد أفتيت لنفسك).
أُتهم بالزندقة، وحكم عليه بسلخ جلده حياً.وعندما بدؤا بالسلخ، شحب وجهه،فقال له القاضي ساخراً : "إذا كنت الحق كما تدعي فلماذا بدأ وجهك بالشحوب؟" فرد عليه نسيمي قائلاً: "الشمس تشحب دائماً عند المغيب لتشرق من جديد|
إن رمت رؤية وجهي
احتجت لعين ترى الحق
وهل لعين كليلة
أن تبصر البهاء في وجه الحق ؟

0 Comments:

Post a Comment

<< Home